مسودة بالقلم الرصاص- قصة التدوينة الأولى

Reading Time: 5 minutes

قبل البداية:

عندما سجلت اسم “ميم نون” واشتريت نطاقًا باسمه، ثم أضفت له وصفًا قصيرًا يُعرفه بأنه منصة للكتابة الإبداعية والترجمة والنشر، ثم وصفًا أطول طرح من الأسئلة أكثر مما طرح من الإجابات/ المعلومات، كان جُل ما يشغل بالي هو إتاحة الفرصة للكتّاب الشباب من خلال الموقع لاستقبال إبداعاتهم ومساعدتهم على تصحيحها لغويًا وتقديم خدمة الاستشارات الأدبية لهم من خلال فريق الموقع، أو تعريفهم ببعض الكتّاب أو المثقفين المعروفين بدعم التجارب الشابة.

استغرق مني كل هذا شهورًا دون أن أخط حرفًا في هذه المدونة، التي نسيت في خضم كل هذا أنني ما سجلتها أساسًا إلا لأكتب فيها ببعض الحرية، وأن كل ما فكرت فيه كان بمثابة مسارات لما يمكن أن تتطور إليه المدونة/ الموقع لاحقًا.

لقد عانيت بشدة في الشهور، وربما السنوات السابقة على هذه اللحظة. ظللت أبتعد تدريجيًا عن الكتابة ثم القراءة بسبب دوامات الحياة التي لا تتوقف عن صفع المرء بلا هوادة. ظللت أبتعد حتى جرّني الشوق جرَّاً نحو عمل مشروع أدبي، لا مجرد العودة لأقرأ أو لأكتب فقط.

استغرقت خطوة تسجيل الموقع شهورًا من التفكير وسويعات قليلة من التنفيذ، لكنني بعد كل هذا لم أكتب. ظل الصدأ المتراكم متمكنًا مني، قررت أن أعود بالقراءة لتليين تروس دماغي-إن جاز التعبير- لكني مع هذا لم أستطع إكمال قراءة كتاب واحد مما لدي.

أطلت في تفاصيل لا تبدو مهمة الذِكر، لكنها بالنسبة إليّ لمحات مختزلة مما أصبح طريقي نحو هذه اللحظة: إمساكي للقلم وبدأ الكتابة.

بدأ شهر ديسمبر، وعزمت أن أبدأ خلاله مشروعي المؤجل بدفع من بعض الأحباب، استباقًا للعام الجديد..لكني مع كل ذلك، لم أكتب حتى جاء الثامن عشر من ديسمبر، وهو اليوم العالمي للغة العربية، مشجعًا لي على الكتابة. فكرت أنه قد يكون اليوم المناسب لبداية “مشروع أدبي محترم” ( لو سمحت،لا تسخر مني عزيزي القاريء)، بتزامنه مع يوم كهذا، بعض النظرعن سبب وظروف تسمية هذا اليوم.

مر اليوم كغيره من الأيام وجاء التاسع عشر الذي كنت أنتظره لحضور حفل إطلاق وتوقيع: “في أثر عنايات الزيات” للكاتبة/الشاعرة/ المترجمة الرائعة “إيمان مرسال”.

الحفلة:

أسرتني معاناة “عنايات” في حياتها، وأسرني قرارها بتعلم الكتابة بالعربية- بعدما كانت لا تتقن سوى الألمانية- للتعبير عن همومها وكتابة روايتها الأولى والأخيرة.

قال أحد الحضور في مداخلة أثناء الحفل أنه ليس هناك معنى في أي مما يحدث/يُكتب. عارضته إيمان وسألته بلطف: إن لم يكن هناك معنى، فلماذا أتى إذًا؟!.. بالتأكيد هناك معنىً ما فيما نقرأ ونكتب.

فرحت بالجمع اللطيف الذي رحّب بإيمان في الإسكندرية واستمتعت كثيرًا بالمناقشة واستغربت غموض شخصية عنايات، وقدَّرت دأب إيمان في تتبع سيرتها بين أزقة وشخوص القاهرة اللانهائيين.

لكن ما سيطر عليّ في كل هذا هو أمر واحد: ماذا لو لم تكتب عنايات “الحب والصمت”؟ لا أظن أنه كان سيهتم بسيرتها أحد. كان سيعد رحيلها -منتحرة- نهاية لشابة لم تُكمل الثلاثين من عمرها بعد، كغيرها من العديدين الدي سبقوها ولحقوها بطرق مختلفة.

لم يميز عنايات سوى ترْكها لأثر مُلغِز، وهو الرواية التي قدمها كاتب مشهور وكتب عنه وعن صاحبته بعض أقرانه بصيغ مختلفة مما بدا غسيلًا لأيديهم مما يمكن أن يكون سببًا لدفعها للانتحار برفضهم دعمها ونشر روايتها، بجانب ظروف شخصية قاسية أخرى عانت منها.

المهم أنها كتبت، ولكتابتها، التي لم تنشر إلا بعد رحيلها ببضع سنوات، الفضل الأعظم في تخليد ذكراها. عنايات رحلت ولم تمت لأنها تركت أثرًا يُتّبع..عنايات لم تمت لأنها كتبت، ويجب أن أكتب أنا أيضًا هنا والآن.هكذا فكرت.

وقفت في الطابور لتوقيع نسختي من إيمان مرسال التي وافقت مشكورة أن يُلتقط لي معها صورة، ثم انطلقت وفي يدي الكتاب نحو أقرب مكان ممكن لأكتب فيه. لم يكن معي سوى الموبايل و”الباور بانك” والكتاب. ظللت أمشي من المنشية إلى أن وصلت لشارع فؤاد، جلست أقرأ قليلًا حتى قابلني في إحدى صفحاته اسم “رضوى عاشور” كاتبتي المفضلة! أحسست أن كل ما في اليوم يقول لي اكتب الآن.

الكتابة:

لم أتحمس للكتابة على الموبايل. تركت المقهى الذي بدأت فيه قراءة الكتاب بحثًا عن مكتبة لشراء أوراق وقلم للكتابة. توجهت لشارع السلطان حسين وسألت عن مكتبة، فوجهني أحدهم نحو مجمع الكليات.

وصلت للمجمع الطبي وكلما سألت عن مكتبة أرشدني أحدهم نحو الاستمرار في المسير نحو الكورنيش والاقتراب من المجمع النظري. لم يكن مساء الخميس مثاليًا على أي حال لشراء مستلزمات دراسية في محيط الكليات المغلقة. سألت عددًا من باعة الأكشاك حتى التقطت في طريقي مارّاً وسألته عن مكتبة قريبة. سألني عما أريد، قلت له أنني أبحث عن بعض الأوراق والأقلام وربما أشتري ملف لجمع “عدة الكتابة” والكتاب معًا. أخذني من يدي نحو مكتبة في شارع جانبي لأكتشف أنه صاحبها!

شعرت بمزيد من الثقة بتيسير الأمر هكذا، أبحث عن مكتبة فأسأل صاحبها قدرًا ليأخذني نحوها ويساعدني! اشتريت بلوك نوت وسألته عن أقلام. وجدت قلمًا جافًا من نوع “بيك- أطلانطيس”، ربطت بين الاسم والجزيرة الأسطورية، وفكرت أنها قد تكون ملهمة في الكتابة، ثم سألته عن قلم رصاص، لأني أفضل الكتابة بالرصاص . فالكتابة بالرصاص قابلة للمحو والتصحيح لكنها مع ذلك ، مهما كانت جودة ممحاتك، تترك أثرًا ولو خفيفًا بعد محوها، والأهم، لأن عنايات كتبت مسودتها بالرصاص مرارًا، واليوم يومها بلا شك!

اخترت مع هذا الأطلانطيس قلم “سنون” سماوي اللون وملفًا كبيرًا بذات اللون ثم دفعت الحساب، وما إن التفت خارجًا حتى وجدت في وجهي لافتة ل”مساحة عمل ” مفتوحة الأبواب..تهللت أساريري وما إن دلفت حتى اكتشفت أنه ليس إلا مركزًا للدروس، لا مساحة عمل ولا يحزنون. قليل من صدمات الواقع للرومانسية المتخيلة قد يفيد، عُد يا ميم إلى الأرض وكفاك تحليقًا بسذاجة، فكما قال جدك المتنبي، ما كل ما يتمنى المرء يدركه، هكذا قلت لنفسي متوجهًا نحو مقهى هاديء بجوار مكتبة الإسكندرية.

أتجه نحو ما يمكن أن يلهمني في كل خطوة أخطوها، لعلي أكتب بعد سنوات من إغلاق مدونتي الشخصية محدودة القراءة. صعدت الطابق العلوي لأرى البحر من علٍ وأنا أكتب، وبدأت مسودة تدوينتي الأولى بالقلم الرصاص.

أحببت التجربة وظللت أكتب حتى تمكن مني شعورٌ أنني مع كل كلمة أخطها في دفتري، أضرب معولًا في ذاتي هادمًا به كل رتيب في الحياة دون الكتابة ومتعتها والاستغراق فيها ومعها، كأنتي أخيرًا وجدت نفسي بعيدًا عما أفعله كل يوم وأستيقظ وأسهر لأجله.

حتى الآن أنا مجرد شخص يتحسس طريقه نحو الكتابة، أملك الكثير من الكتب وأعرف العديدين الذين في وسعهم توجيهي ومساعدتي في الكتابة والنشر، وهم نفس الأشخاص الذين فكرت أن أوصلهم بأصحاب التجارب الجديدة لترى النور بأفضل صورة ممكنة.

أقف الآن على ناصية ما يمكن أن يكون حلمًا لا يتحقق إلا بالصقل والمثابرة والتعلّم والانتباه. أريد أن أترك أثرًا ما وأن أحافظ عليه وعلى آثار من سبقوني وأن أشجع من هم حولي على ترك آثارهم أيضًا، فحيواتنا لا معنى لها إلا إن اتصلت وتقاطعت مع بعضها البعض، وذواتنا، إن اكتفت بأعمارها الفانية ، لن تظلم نفسها فقط، بل ستظلم جميع من كان في معرفتهم بقصصها وثبة لحاضر ومستقبل أفضل وأقل عناءً.

لست فخورًا كثيرًا بالتدوينة الأولى، ولا أظن أني سأجرؤ على إرسالها لإيمان مرسال الآن، وإن كان يجب عليّ أن أشكرها في يومٍ ما لكسرها جمود الكتابة الذي عانيت منه طويلًا..أتذكر صديقي الذي نصحني بالقفز في البحر مباشرة عندما ظللت أتحدث معه عن المدونة والموقع دون أن أخط حرفًا..حسنًا أنا لم أقفز، لكن إيمان وعنايات دفعاني وقفزت رغمًا عني في بحر الكتابة.

أختم باقتباس صغير من رواية أطياف لرضوى عاشور نقلته عن أرسطو ببعض التصرف: ” وظاهر مما قيل إن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع، بل ما يجوز وقوعه”

4 thoughts on “مسودة بالقلم الرصاص- قصة التدوينة الأولى

  1. Mohamed Hamouda says:

    انها المبروك والمبارك….لنا من سنقرأ لك يا ميم
    هى خطوة قد تكون فى وقتها وقد تكون تأخرت كثيرا ….أعلم أنك موهوب …وأن الكتابة هى مجالك الذي لم تكن قد بدأته بعد

    استمر يا عزيزى
    والمبروك والمبارك في المرة القادمة ستكون مع نشر كتابك …عندما تترك الأثر المطبوع يا صديقي
    آملا أن يكون هذا في القريب العاجل للغاية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *